لا يزال المُصنِّف يشرح قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ [منه بدا] يرد به عَلَى من قال إنه معنى واحد لا يتصور سماعه وهم يقولون: إنه معنى واحد وما دام أنه معنى واحد فلا يتصور أن يسمع كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإنما يسمع الذي في المصاحف، وهو عبارة أو حكاية عبر بها جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو نحو ذلك وتقدم في كلامه، فَيَقُولُ: إن هذا يرده العبارة المأثورة عن السلف التي قالها الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ [منه بدا وإليه يعود] وهذه عبارة سلفية مأثورة رددها العلماء من السلف والخلف من أهل السنة.
ومعنى [منه بدأ] أي أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تكلم به عَلَى الحقيقة، وهذا يرد وينفي كل الأقوال الأخرى المخالفة، ومعنى [منه بدأ] أي ظهر كما سبق بيانه؛ لكننا إن قلنا: إنه خلقه في محل، أو عبر عنه غير الله تعالى.
كالقول بأن جبريل هو الذي عبر عن كلام الله فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ من جبريل، وإذا قلنا: إنه خلقه في محل أياً كَانَ المحل، الشجرة أو غير ذلك, فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ أي: ظهر من المحل الذي ابتدأ الظهور منه، فهذا رد عَلَى أُولَئِكَ بالعقل الصحيح، وبالنظر السليم المتأمل في كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) [الزمر:1] ويقول: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) الآية ويقول: ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) [النحل: 102].
وكثير من الآيات التي ستأتينا أيضاً وفيها تنزيل أو أنزل أو نزل فيما يتعلق بالقرآن نجد أن فيها صفة من صفات الله ((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) أو ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) وما أشبه ذلك كما في أول الزمر أو غافر أو فصلت أو السجدة، وفي كثير من آيات القُرْآن كلمة (تَنْزِيلُ) والنزول يأتي بعد ذكر أنه من الله، وكذلك في الأحاديث.
وعلى ذلك درج السلف وفهم المفسرون قبل الاختلاف وقبل وقوع البدع أنه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول :((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) فهو من الله تَعَالَى ابتداءاً وظهوراً فهو المتكلم به عَلَى الحقيقة الذي أنشأ الكلام وقاله وتكلم به وابتدأه وظهر منه، ولم يرد في القُرْآن ولا في السنة ما يخالف ذلك ولم يفهم أحد من السلف من الصحابة أو التابعين أومن بعدهم معنىً آخر غير ذلك المعنى.